الدعوة جهرًا:
ما إن نزل أمر الحق تبارك وتعالى لرسوله -صلى الله عليه وسلم- بالجهر بالدعوة، حتى قام النبى على جبل الصفا؛ يعلن على الملأ حقيقة رسالته. لكن الآذان التى لم تتعود سماع الحق، والعقول التى ألفت الدعة والنوم، والنفوس التى عشقت الضلال حتى أدمنته، لم ترض لنور الله أن يسطع بين حنايا مكة؛ حتى يكون لها فى منعه دور ونصيب. وقد تحمل النبى -صلى الله عليه وسلم-، وعصبته المؤمنة مخاطر وألم المواجهة والإيذاء، وسطروا بدمائهم وأرواحهم أروع آيات الصبر والثبات. وهم إن عدموا ملجأ يحتمون به فى دروب مكة ودورها على تعددها واتساعها فقد وجدوا فى دار أخيهم الأرقم النائية بعض الأمن وبعض الجزاء، فبين جدران هذه الدار المباركة كانوا يتعلمون أحكام دينهم، ويتربون على قيمه السامية، ثم كان فى الهجرة إلى الحبشة بعد اشتداد الإيذاء الحماية والمنعة، فى بلد عُرِفَ ملكها بالعدل والإنصاف. أما مسلمو مكة ممن لم يهاجروا إلى الحبشة، فقد قويت شوكتهم بإسلام حمزة وعمر -رضى الله عنهما-. ولما أيست قريش من أساليب المواجهة والإيذاء لجأت لأساليب المساومة والإغراء، لكن هيهات لمن رأى النور الحق أن يخدع ببريق الشهوات. وعلى حمية الجوار جمع أبو طالب بنى هاشم وبنى المطلب، لنصرة ابن أخيه، وهنا لم يبق لقريش إلا أن تعلن المقاطعة العامة للمسلمين وأنصارهم، وكما صبر المسلمون على ألم الإيذاء، وفتنة الإغراء، مشوا بأقدامهم على أشواك هذه المقاطعة ليصلوا إلى هدفهم النبيل. وكمحاولة يائسة حيرى أخيرة أرسلت قريش وفدًا منها إلى أبى طالب؛ ليعاود المفاوضة، ولم يعد إلا بما استحقه: خفَّى حنين. وفى العام العاشر للنبوة ألمت برسول الله والمسلمين مصيبتان: وفاة أبى طالب، ووفاة خديجة -رضى الله عنها- ؛ فسُمِّىَ هذا العام بعام الحزن.
- المواجهة والإيذاء:
صارح محمد -صلى الله عليه وسلم- قومه بضلالهم، وواجههم بالنور الذى يحمله، لكن الأعين التى أنست الظلمة إذا واجهتها الأضواء أبت وتألمت، أعلنت مكة الحرب على نبيها وأتباعه من اليوم الأول، شنت عليه حربًا دعائية لتصرف الناس عنه، ثم استخدمت سلاحى السخرية، وإثارة الشبهات؛ لتفت فى عضده، وأخذت فى اختراع الحيل لإشغال الناس عنه، وبين الترغيب والترهيب كان استخدامها للمساومة مرة والاضطهاد مرات أخرى، وصارت تضغط بثقلها على حاميه بمكة: عمه أبى طالب، أما المسلمون الذين آمنوا به فقد توافر لهم من عوامل الصبر والثبات ما يسّر لهم اجتياز هذه المحنة، ومن وضوح الطريق ما أعانهم على السير فى هذه الظلمة.
- دار الأرقم:
الوضع فى مكة جد خطير، فالدعوة الوليدة تنساب إلى كل بيت، تهز كيان مكة الدينى، وتزعزع أركان قريش فى أرض العرب، وأعين المشركين وآذانهم تعد على المسلمين أنفاسهم، وتحصى خطواتهم، وتتسمع أخبارهم، لتجهز عليهم، ولذا كان من الواجب على المسلمين أن يستتروا، وأن يتخفوا عند اللقاء، وبدار الأرقم بن أبى الأرقم كان اجتماعهم الدورى بنبيهم -صلى الله عليه وسلم- وكان وراء اختيار هذه الدار أسباب وجيهة. أما ما كان يحدث داخلها، بعيدًا عن أعين قريش، فكان حدثًا فريدًا فى التاريخ، صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-أول من آمن به وصدقه ودافع عن دين الله، يجلسون إلى رسول العالمين بنفسه، يتلقون منه آخر ما نزل به جبريل الأمين من ربه -عز وجل-، تلقيا دائمًا مستمرًّا، تزكو به نفوسهم، وتتطهر قلوبهم، وتصاغ عقولهم وأرواحهم صياغة جديدة، رحم الله الأرقم ورضى عنه، لقد جعل داره مرفأ لسفينة الإيمان، ومهدًا لدعوة الله عز وجل، ومدرسة تلقى فيها الأولون دينهم.
- الهجرة إلى الحبشة :
الدفاع عن النفس، وقتال من بغى واعتدى، لم ينزل أمر الله به بعد، والبقاء فى مكة أصبح مستحيلاً، مع هذا الاضطهاد والتعذيب، فماذا يفعل المسلمون إذن؟ إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الرحيم بأمته، قد ارتأى لهم أن يفروا بدينهم إلى ديار آمنة، فأشار عليهم بالهجرة إلى الحبشة، فهاجر منهم فى رجب سنة خمس من النبوة اثنا عشر رجلاً، وأربع نسوة، رئيسهم عثمان بن عفان، ومعه زوجه السيدة رقية بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقد هاجر هؤلاء الصحابة تسللاً وخفية، فى سفينتين تجاريتين أبحرتا بهم إلى الحبشة، حيث النجاشى الملك العادل، الذى لا يظلم عنده أحد. وما كاد المسلمون المهاجرون يستقرون بالحبشة حتى سارت إليهم شائعة بإسلام قريش، فقفلوا راجعين إلى مكة فى شوال من نفس العام، وما تبينوا الحقيقة إلا بعد ساعة من نهار فى مكة. واشتد تعذيب المشركين لهم، فكانت هجرتهم الثانية رغم يقظة المشركين، وشدة حذرهم. وبلغ عددهم فى هذه المرة ثلاثة وثمانين رجلاً وثمان عشرة أو تسع عشرة امرأة، لكن أنى لنار قريش أن يهدأ أوارها، لقد عز عليها أن تعلم أن المسلمين قد وجدوا مأمنًا يعبدون فيه ربهم، فكانت مكيدتها بإرسال رسولين إلى الحبشة لاستردادهم من النجاشى، وقد خاب سعيهم، وبطل مكرهم، ورد النجاشى رسولى مكة دون أن يقضى لهما حاجة، بل أعلن إيمانه بما جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم-، أما هؤلاء المهاجرون، فقد مكثوا بالحبشة، حتى مكن الله لنبيه بالمدينة، فعادوا إليها، وكان آخرهم عودة جعفر بن أبى طالب بعد فتح خيبر.
- تقوية شوكة المسلمين :
كلما زاد الليل ظلمة، وكلما اشتدت السماء حلكة، كلما كان ذلك إيذانًا ببزوغ فجر جديد. أبو جهل يمر بالنبى -صلى الله عليه وسلم- عند الصفا فيؤذيه وينال منه، فلا يرد عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- شيئًا، ويأبى المعاند أن يترك محمدًا كريم الخلق يمضى فى طريقه، حتى يضربه بحجر فى رأسه الشريفة؛ فيسيل منها الدم نزفًا، ثم تكون هذه الحادثة الأليمة مقدمة لنهاية سعيدة هى إسلام حمزة بن عبد المطلب. حمية فى بادئ الأمر، ثم إيمان راسخ بعدها. ولا تكاد أيام ثلاثة من شهر ذى الحجة للعام السادس من نبوته -صلى الله عليه وسلم- تمر بعد إسلام حمزة -رضى الله عنه- حتى يلطم عمر بن الخطاب أخته فاطمة على وجهها لطمة شديدة؛ لإيمانها بمحمد -صلى الله عليه وسلم-، فيكون الدم السائل من وجهها سببًا لإيمان ابن الخطاب، وإعلانه شهادة الحق، وفى أيام ثلاثة تتبدل أحوال المسلمين، والدعوة المحبوسة فى دارالأرقم تجد طريقها إلى الكعبة، فى وضح النهار، وعلى مسمع قريش ومرآها، أقدام المسلمين تشق طرقات مكة، فى صفين طويلين، يقدم أحدهما أسد الله حمزة، ويسبق الآخر الفاروق عمر، الذى أبى الاختباء، وأقسم لنبيه -صلى الله عليه وسلم- قائلاً: والذى بعثك بالحق لنخرجن!، فكان خروج المسلمين وكانت عزتهم. يصف صهيب تلك الحال قائلاً: لما أسلم عمر، ظهر الإسلام ودعى إليه علانية، وجلسنا حول البيت حلقًا، وطفنا بالبيت، وانتصفنا ممن غلظ علينا، ورددنا عليه بعض ما يأتى به!.
- تجمع بنى هاشم وبنى المطلب:
الأفضل عند المواجهة ألا تكتفى بالرد على خصمك، بل تضع نفسك مكانه، لتتنبأ بما ينوى أن يصنعه، فتبادره قبل أن يسبقك. هكذا تعلم أبو طالب من بيئته الصحراوية المتقلبة، والرجل العاقل الحريص على ابن أخيه استقرأ الأحداث، فوجد قريشًا قد وصلت مع محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى طريق مسدود، ولم يعد أمامها إلا قتل محمد، رضى أبو طالب بعد ذلك أم سخط، ثم إن أحداثًا متعاقبة صارت تؤكد لديه حدسه، فالمشركون هددوه بالمنازلة، وساوموه على قتل ابن أخيه مقابل إعطائهم ابن الوليد له يربيه ويتخذه عوضًا، ثم محاولة أبى جهل رضخ رأس النبى -صلى الله عليه وسلم- بحجر ألقاه، ومحاولة عدو الله عقبة بن أبى معيط خنقه بردائه، وخروج عمر -قبل إسلامه- بسيفه عازمًا ذبح محمد- كل هذه الأحداث تؤكد لأبى طالب أن المشركين لن يأبهوا لجواره وذمته. وهنا لم يبق لأبى طالب إلا المبادرة والحزم، فجمع أهل بيته من بنى هاشم وبنى المطلب ولدى عبد مناف، ودعاهم إلى منع ابن أخيه والقيام دونه، فأجابه إلى ذلك مسلمهم وكافرهم، حمية للجوار العربى، وأدخلوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فى شعبهم، منعًا له ممن أراد قتله، فأسقط فى يدى قريش، ولم يبق أمامها إلا إعلان المقاطعة العامة.
- المقاطعة العامة:
الأحداث فى مكة صارت متلاحقة، حمزة يدخل الإسلام، ولا تكاد أيام ثلاثة تمر حتى يتبعه عمر، والمسلمون يخرجون فى طرقات مكة، يعلنون عن إيمانهم، وقريش تتنازل عن بعض كبريائها وتذهب إلى محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ لتساومه، لكن النبى -صلى الله عليه وسلم- يردها خائبة، ثم يعلن أبو طالب جمعه لبنى هاشم وبنى عبد المطلب على نصرة محمد، والرسول يدخل فى شعبهم احتماء من كيد قريش. إن سرعة الأحداث وتعاقبها فى فترة وجيزة، لا تتجاوز الأسابيع الأربعة تنبئ بحدث جلل، لم يلبث حتى أسفرت عن وجهه الأيام، فقد هدى قريشًا شيطانها إلى كتابة صحيفة علقت بالكعبة؛ لمقاطعة بنى هاشم وبنى المطلب مقاطعة تامة تفضى إلى هلاكهم، وصبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون، ومعهم بنو هاشم وبنو المطلب مسلمهم وكافرهم فى شعب أبى طالب، إلا أبا لهب، فإنه ظاهر قريشًا على رحمه، وذلك من ليلة هلال المحرم سنة سبع من البعثة، ولمدة ثلاث سنين متصلة، حتى منّ الله تعالى عليهم، ونقضت الصحيفة الظالمة، القاطعة للرحم.
- آخر وفد قريش إلى أبى طالب:
أحداث جسيمة مرت بأبى طالب فأثرت فيه، وقد جاوزت سنه الثمانين، وكان آخر هذه الأحداث المقاطعة القاسية، والتى هتفت بالمرض، فألح على الشيخ الكبير يلاحقه، ورأت قريش أن أبا طالب سائر إلى منيته على عجل وخشيت أن تفتك بمحمد -صلى الله عليه وسلم- بعد موته، فتعيرها العرب بجبن صنيعها، إذ تركته حين أحاطه عمه، ثم انتهشته حين ولى عنه، فأجمعت رأيها أن تذهب إليه فتعيد مساومته، حتى تصل مع محمد إلى حل وسط. وبجوار فراش أبى طالب حكمت قريش سيدها الذى حاصرته حتى قريب وأنهكت عافيته- حكمته بينها وبين محمد، فاستدعى أبو طالب ابن أخيه، ليرى رأيه فى قول قريش، فسمع منهم النبى، ثم أجابهم قائلاً: أرأيتم إن أعطيتكم كلمة تكلمتم بها، ملكتم بها العرب، ودانت لكم بها العجم؟. فتعجبوا من قوله وتحيروا، حتى أجابه أبو جهل قائلاً: ما هى؟، وأبيك لنعطيكها وعشر أمثالها!، فقال لهم النبى: تقولون لا إله إلا الله، وتخلعون ما تعبدون من دونه؛ فصفق القوم بأيديهم، ثم قال: أتريد يا محمد أن تجعل الآلهة إلهًا واحدًا؟، إن أمرك لعجب!. ومضوا إلى ديارهم، وقد علموا -من جديد- أنه لا سبيل إلى المساومة مع هذا النبى الثابت على مبادئه.
- عام الحزن:
تعاقب المسرات والأحزان، وتتابع اليسر والعسر، سنة من سنن الحياة، والعام العاشر للنبوة وقد شهد فجره سعادة المسلمين ونبيهم -صلى الله عليه وسلم- بخروجهم من الشعب، ونقض صحيفة البغى التى خطتها قريش، ولم يلبث -هذا العام- أن دارت أيامه وتوالت، فأظهرت من الحوادث ما آلم النبى -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين جميعًا. أما أول هذه الحوادث فكان وفاة أبى طالب عم النبى -صلى الله عليه وسلم- ودرعه الذى يتقى به كيد قريش، وأما ثانيها: فكان وفاة السيدة خديجة -رضى الله عنها-، زوج رسول الله، وشريكة كفاحه، وراعية بيت النبوة. وكما كانت هاتان الحادثتان مصيبة رزء بها محمد -صلى الله عليه وسلم-، فقد كانتا أيضًا باب شر على من آمن معه؛ تجرأت قريش على المسلمين، حتى التجأ أبو بكر إلى الهجرة من مكة، وما رده إلا ابن الدغنة، إذ أدخله فى جواره، ونالت قريش من النبى -صلى الله عليه وسلم- ما لم تنله فى حياة أبى طالب، وبلغ فجورها أن يعترضه سفيه من سفهائها، فينثر التراب على رأسه، ويقول الكريم لابنته -وهى تغسله عنه وتبكى-: لا تبكى يا بنية، فإن الله مانعٌ أباك. ولتتابع هذه الأحزان سمى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا العام بعام الحزن، وقد شهد شهر شوال من هذا العام زواج النبى بالسيدة سودة بنت زمعة، رضى الله عنها وأرضاها، ولعل هذا الزواج كان نسمة باردة طيبة فى قيظ العام العاشر للبعثة.
ما إن نزل أمر الحق تبارك وتعالى لرسوله -صلى الله عليه وسلم- بالجهر بالدعوة، حتى قام النبى على جبل الصفا؛ يعلن على الملأ حقيقة رسالته. لكن الآذان التى لم تتعود سماع الحق، والعقول التى ألفت الدعة والنوم، والنفوس التى عشقت الضلال حتى أدمنته، لم ترض لنور الله أن يسطع بين حنايا مكة؛ حتى يكون لها فى منعه دور ونصيب. وقد تحمل النبى -صلى الله عليه وسلم-، وعصبته المؤمنة مخاطر وألم المواجهة والإيذاء، وسطروا بدمائهم وأرواحهم أروع آيات الصبر والثبات. وهم إن عدموا ملجأ يحتمون به فى دروب مكة ودورها على تعددها واتساعها فقد وجدوا فى دار أخيهم الأرقم النائية بعض الأمن وبعض الجزاء، فبين جدران هذه الدار المباركة كانوا يتعلمون أحكام دينهم، ويتربون على قيمه السامية، ثم كان فى الهجرة إلى الحبشة بعد اشتداد الإيذاء الحماية والمنعة، فى بلد عُرِفَ ملكها بالعدل والإنصاف. أما مسلمو مكة ممن لم يهاجروا إلى الحبشة، فقد قويت شوكتهم بإسلام حمزة وعمر -رضى الله عنهما-. ولما أيست قريش من أساليب المواجهة والإيذاء لجأت لأساليب المساومة والإغراء، لكن هيهات لمن رأى النور الحق أن يخدع ببريق الشهوات. وعلى حمية الجوار جمع أبو طالب بنى هاشم وبنى المطلب، لنصرة ابن أخيه، وهنا لم يبق لقريش إلا أن تعلن المقاطعة العامة للمسلمين وأنصارهم، وكما صبر المسلمون على ألم الإيذاء، وفتنة الإغراء، مشوا بأقدامهم على أشواك هذه المقاطعة ليصلوا إلى هدفهم النبيل. وكمحاولة يائسة حيرى أخيرة أرسلت قريش وفدًا منها إلى أبى طالب؛ ليعاود المفاوضة، ولم يعد إلا بما استحقه: خفَّى حنين. وفى العام العاشر للنبوة ألمت برسول الله والمسلمين مصيبتان: وفاة أبى طالب، ووفاة خديجة -رضى الله عنها- ؛ فسُمِّىَ هذا العام بعام الحزن.
- المواجهة والإيذاء:
صارح محمد -صلى الله عليه وسلم- قومه بضلالهم، وواجههم بالنور الذى يحمله، لكن الأعين التى أنست الظلمة إذا واجهتها الأضواء أبت وتألمت، أعلنت مكة الحرب على نبيها وأتباعه من اليوم الأول، شنت عليه حربًا دعائية لتصرف الناس عنه، ثم استخدمت سلاحى السخرية، وإثارة الشبهات؛ لتفت فى عضده، وأخذت فى اختراع الحيل لإشغال الناس عنه، وبين الترغيب والترهيب كان استخدامها للمساومة مرة والاضطهاد مرات أخرى، وصارت تضغط بثقلها على حاميه بمكة: عمه أبى طالب، أما المسلمون الذين آمنوا به فقد توافر لهم من عوامل الصبر والثبات ما يسّر لهم اجتياز هذه المحنة، ومن وضوح الطريق ما أعانهم على السير فى هذه الظلمة.
- دار الأرقم:
الوضع فى مكة جد خطير، فالدعوة الوليدة تنساب إلى كل بيت، تهز كيان مكة الدينى، وتزعزع أركان قريش فى أرض العرب، وأعين المشركين وآذانهم تعد على المسلمين أنفاسهم، وتحصى خطواتهم، وتتسمع أخبارهم، لتجهز عليهم، ولذا كان من الواجب على المسلمين أن يستتروا، وأن يتخفوا عند اللقاء، وبدار الأرقم بن أبى الأرقم كان اجتماعهم الدورى بنبيهم -صلى الله عليه وسلم- وكان وراء اختيار هذه الدار أسباب وجيهة. أما ما كان يحدث داخلها، بعيدًا عن أعين قريش، فكان حدثًا فريدًا فى التاريخ، صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-أول من آمن به وصدقه ودافع عن دين الله، يجلسون إلى رسول العالمين بنفسه، يتلقون منه آخر ما نزل به جبريل الأمين من ربه -عز وجل-، تلقيا دائمًا مستمرًّا، تزكو به نفوسهم، وتتطهر قلوبهم، وتصاغ عقولهم وأرواحهم صياغة جديدة، رحم الله الأرقم ورضى عنه، لقد جعل داره مرفأ لسفينة الإيمان، ومهدًا لدعوة الله عز وجل، ومدرسة تلقى فيها الأولون دينهم.
- الهجرة إلى الحبشة :
الدفاع عن النفس، وقتال من بغى واعتدى، لم ينزل أمر الله به بعد، والبقاء فى مكة أصبح مستحيلاً، مع هذا الاضطهاد والتعذيب، فماذا يفعل المسلمون إذن؟ إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الرحيم بأمته، قد ارتأى لهم أن يفروا بدينهم إلى ديار آمنة، فأشار عليهم بالهجرة إلى الحبشة، فهاجر منهم فى رجب سنة خمس من النبوة اثنا عشر رجلاً، وأربع نسوة، رئيسهم عثمان بن عفان، ومعه زوجه السيدة رقية بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقد هاجر هؤلاء الصحابة تسللاً وخفية، فى سفينتين تجاريتين أبحرتا بهم إلى الحبشة، حيث النجاشى الملك العادل، الذى لا يظلم عنده أحد. وما كاد المسلمون المهاجرون يستقرون بالحبشة حتى سارت إليهم شائعة بإسلام قريش، فقفلوا راجعين إلى مكة فى شوال من نفس العام، وما تبينوا الحقيقة إلا بعد ساعة من نهار فى مكة. واشتد تعذيب المشركين لهم، فكانت هجرتهم الثانية رغم يقظة المشركين، وشدة حذرهم. وبلغ عددهم فى هذه المرة ثلاثة وثمانين رجلاً وثمان عشرة أو تسع عشرة امرأة، لكن أنى لنار قريش أن يهدأ أوارها، لقد عز عليها أن تعلم أن المسلمين قد وجدوا مأمنًا يعبدون فيه ربهم، فكانت مكيدتها بإرسال رسولين إلى الحبشة لاستردادهم من النجاشى، وقد خاب سعيهم، وبطل مكرهم، ورد النجاشى رسولى مكة دون أن يقضى لهما حاجة، بل أعلن إيمانه بما جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم-، أما هؤلاء المهاجرون، فقد مكثوا بالحبشة، حتى مكن الله لنبيه بالمدينة، فعادوا إليها، وكان آخرهم عودة جعفر بن أبى طالب بعد فتح خيبر.
- تقوية شوكة المسلمين :
كلما زاد الليل ظلمة، وكلما اشتدت السماء حلكة، كلما كان ذلك إيذانًا ببزوغ فجر جديد. أبو جهل يمر بالنبى -صلى الله عليه وسلم- عند الصفا فيؤذيه وينال منه، فلا يرد عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- شيئًا، ويأبى المعاند أن يترك محمدًا كريم الخلق يمضى فى طريقه، حتى يضربه بحجر فى رأسه الشريفة؛ فيسيل منها الدم نزفًا، ثم تكون هذه الحادثة الأليمة مقدمة لنهاية سعيدة هى إسلام حمزة بن عبد المطلب. حمية فى بادئ الأمر، ثم إيمان راسخ بعدها. ولا تكاد أيام ثلاثة من شهر ذى الحجة للعام السادس من نبوته -صلى الله عليه وسلم- تمر بعد إسلام حمزة -رضى الله عنه- حتى يلطم عمر بن الخطاب أخته فاطمة على وجهها لطمة شديدة؛ لإيمانها بمحمد -صلى الله عليه وسلم-، فيكون الدم السائل من وجهها سببًا لإيمان ابن الخطاب، وإعلانه شهادة الحق، وفى أيام ثلاثة تتبدل أحوال المسلمين، والدعوة المحبوسة فى دارالأرقم تجد طريقها إلى الكعبة، فى وضح النهار، وعلى مسمع قريش ومرآها، أقدام المسلمين تشق طرقات مكة، فى صفين طويلين، يقدم أحدهما أسد الله حمزة، ويسبق الآخر الفاروق عمر، الذى أبى الاختباء، وأقسم لنبيه -صلى الله عليه وسلم- قائلاً: والذى بعثك بالحق لنخرجن!، فكان خروج المسلمين وكانت عزتهم. يصف صهيب تلك الحال قائلاً: لما أسلم عمر، ظهر الإسلام ودعى إليه علانية، وجلسنا حول البيت حلقًا، وطفنا بالبيت، وانتصفنا ممن غلظ علينا، ورددنا عليه بعض ما يأتى به!.
- تجمع بنى هاشم وبنى المطلب:
الأفضل عند المواجهة ألا تكتفى بالرد على خصمك، بل تضع نفسك مكانه، لتتنبأ بما ينوى أن يصنعه، فتبادره قبل أن يسبقك. هكذا تعلم أبو طالب من بيئته الصحراوية المتقلبة، والرجل العاقل الحريص على ابن أخيه استقرأ الأحداث، فوجد قريشًا قد وصلت مع محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى طريق مسدود، ولم يعد أمامها إلا قتل محمد، رضى أبو طالب بعد ذلك أم سخط، ثم إن أحداثًا متعاقبة صارت تؤكد لديه حدسه، فالمشركون هددوه بالمنازلة، وساوموه على قتل ابن أخيه مقابل إعطائهم ابن الوليد له يربيه ويتخذه عوضًا، ثم محاولة أبى جهل رضخ رأس النبى -صلى الله عليه وسلم- بحجر ألقاه، ومحاولة عدو الله عقبة بن أبى معيط خنقه بردائه، وخروج عمر -قبل إسلامه- بسيفه عازمًا ذبح محمد- كل هذه الأحداث تؤكد لأبى طالب أن المشركين لن يأبهوا لجواره وذمته. وهنا لم يبق لأبى طالب إلا المبادرة والحزم، فجمع أهل بيته من بنى هاشم وبنى المطلب ولدى عبد مناف، ودعاهم إلى منع ابن أخيه والقيام دونه، فأجابه إلى ذلك مسلمهم وكافرهم، حمية للجوار العربى، وأدخلوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فى شعبهم، منعًا له ممن أراد قتله، فأسقط فى يدى قريش، ولم يبق أمامها إلا إعلان المقاطعة العامة.
- المقاطعة العامة:
الأحداث فى مكة صارت متلاحقة، حمزة يدخل الإسلام، ولا تكاد أيام ثلاثة تمر حتى يتبعه عمر، والمسلمون يخرجون فى طرقات مكة، يعلنون عن إيمانهم، وقريش تتنازل عن بعض كبريائها وتذهب إلى محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ لتساومه، لكن النبى -صلى الله عليه وسلم- يردها خائبة، ثم يعلن أبو طالب جمعه لبنى هاشم وبنى عبد المطلب على نصرة محمد، والرسول يدخل فى شعبهم احتماء من كيد قريش. إن سرعة الأحداث وتعاقبها فى فترة وجيزة، لا تتجاوز الأسابيع الأربعة تنبئ بحدث جلل، لم يلبث حتى أسفرت عن وجهه الأيام، فقد هدى قريشًا شيطانها إلى كتابة صحيفة علقت بالكعبة؛ لمقاطعة بنى هاشم وبنى المطلب مقاطعة تامة تفضى إلى هلاكهم، وصبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون، ومعهم بنو هاشم وبنو المطلب مسلمهم وكافرهم فى شعب أبى طالب، إلا أبا لهب، فإنه ظاهر قريشًا على رحمه، وذلك من ليلة هلال المحرم سنة سبع من البعثة، ولمدة ثلاث سنين متصلة، حتى منّ الله تعالى عليهم، ونقضت الصحيفة الظالمة، القاطعة للرحم.
- آخر وفد قريش إلى أبى طالب:
أحداث جسيمة مرت بأبى طالب فأثرت فيه، وقد جاوزت سنه الثمانين، وكان آخر هذه الأحداث المقاطعة القاسية، والتى هتفت بالمرض، فألح على الشيخ الكبير يلاحقه، ورأت قريش أن أبا طالب سائر إلى منيته على عجل وخشيت أن تفتك بمحمد -صلى الله عليه وسلم- بعد موته، فتعيرها العرب بجبن صنيعها، إذ تركته حين أحاطه عمه، ثم انتهشته حين ولى عنه، فأجمعت رأيها أن تذهب إليه فتعيد مساومته، حتى تصل مع محمد إلى حل وسط. وبجوار فراش أبى طالب حكمت قريش سيدها الذى حاصرته حتى قريب وأنهكت عافيته- حكمته بينها وبين محمد، فاستدعى أبو طالب ابن أخيه، ليرى رأيه فى قول قريش، فسمع منهم النبى، ثم أجابهم قائلاً: أرأيتم إن أعطيتكم كلمة تكلمتم بها، ملكتم بها العرب، ودانت لكم بها العجم؟. فتعجبوا من قوله وتحيروا، حتى أجابه أبو جهل قائلاً: ما هى؟، وأبيك لنعطيكها وعشر أمثالها!، فقال لهم النبى: تقولون لا إله إلا الله، وتخلعون ما تعبدون من دونه؛ فصفق القوم بأيديهم، ثم قال: أتريد يا محمد أن تجعل الآلهة إلهًا واحدًا؟، إن أمرك لعجب!. ومضوا إلى ديارهم، وقد علموا -من جديد- أنه لا سبيل إلى المساومة مع هذا النبى الثابت على مبادئه.
- عام الحزن:
تعاقب المسرات والأحزان، وتتابع اليسر والعسر، سنة من سنن الحياة، والعام العاشر للنبوة وقد شهد فجره سعادة المسلمين ونبيهم -صلى الله عليه وسلم- بخروجهم من الشعب، ونقض صحيفة البغى التى خطتها قريش، ولم يلبث -هذا العام- أن دارت أيامه وتوالت، فأظهرت من الحوادث ما آلم النبى -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين جميعًا. أما أول هذه الحوادث فكان وفاة أبى طالب عم النبى -صلى الله عليه وسلم- ودرعه الذى يتقى به كيد قريش، وأما ثانيها: فكان وفاة السيدة خديجة -رضى الله عنها-، زوج رسول الله، وشريكة كفاحه، وراعية بيت النبوة. وكما كانت هاتان الحادثتان مصيبة رزء بها محمد -صلى الله عليه وسلم-، فقد كانتا أيضًا باب شر على من آمن معه؛ تجرأت قريش على المسلمين، حتى التجأ أبو بكر إلى الهجرة من مكة، وما رده إلا ابن الدغنة، إذ أدخله فى جواره، ونالت قريش من النبى -صلى الله عليه وسلم- ما لم تنله فى حياة أبى طالب، وبلغ فجورها أن يعترضه سفيه من سفهائها، فينثر التراب على رأسه، ويقول الكريم لابنته -وهى تغسله عنه وتبكى-: لا تبكى يا بنية، فإن الله مانعٌ أباك. ولتتابع هذه الأحزان سمى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا العام بعام الحزن، وقد شهد شهر شوال من هذا العام زواج النبى بالسيدة سودة بنت زمعة، رضى الله عنها وأرضاها، ولعل هذا الزواج كان نسمة باردة طيبة فى قيظ العام العاشر للبعثة.